كتاب: في ظلال القرآن (نسخة منقحة)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن (نسخة منقحة)



فلما أن استكملت نفس موسى عليه السلام تجاربها، وأكملت مرانتها ودربتها، بهذه التجربة الأخيرة في دار الغربة، قادت يد القدرة خطاه مرة أخرى عائدة به إلى مهبط رأسه، ومقر أهله وقومه، ومجال رسالته وعمله، سالكة به الطريق التي سلكها أول مرة وحيداً طريداً خائفاً يتلفت. فما هذه الجيئة والذهوب في ذات الطريق؟ إنها التدريب والمرانة والخبرة حتى بشعاب الطريق.
الطريق الذي سيقود فيه موسى خطى قومه بأمر ربه، كي يستكمل صفات الرائد وخبرته، حتى لا يعتمد على غيره ولو في ريادة الطريق. فقومه كانوا في حاجة إلى رائد يقودهم في الصغيرة والكبيرة، بعد أن أفسدهم الذل والقسوة والتسخير؛ حتى فقدوا القدرة على التدبير والتفكير.
وهكذا ندرك كيف صنع موسى على عين الله، وكيف أعدته القدرة لتلقي التكليف. فلنتبع خطى موسى تنقلها يد القدرة الكبرى، في طريقه إلى هذا التكليف.
{فلما قضى موسى الأجل وسار بأهله آنس من جانب الطور ناراً قال لأهله امكثوا إني آنست ناراً لعلي آتيكم منها بخبر أو جذوة من النار لعلكم تصطلون}..
ترى أي خاطر راود موسى، فعاد به إلى مصر، بعد انقضاء الأجل، وقد خرج منها خائفاً يترقب؟ وأنساه الخطر الذي ينتظره بها، وقد قتل فيها نفساً؟ وهناك فرعون الذي كان يتآمر مع الملأ من قومه ليقتلوه؟
إنها اليد التي تنقل خطاه كلها، لعلها قادته هذه المرة بالميل الفطري إلى الأهل والعشيرة، وإلى الوطن والبيئة، وأنسته الخطر الذي خرج هارباً منه وحيداً طريداً. ليؤدي المهمة التي خلق لها ورعي منذ اللحظة الأولى.
على أية حال ها هو ذا عائد في طريقه، ومعه أهله، والوقت ليل، والجو ظلمة؛ وقد ضل الطريق، والليلة شاتية، كما يبدو من أنسه بالنار التي شاهدها، ليأتي منها بخبر أو جذوة.. هذا هو المشهد الأول في هذه الحلقة.
فأما المشهد الثاني فهو المفاجأة الكبرى:
{فلما أتاها نودي من شاطئ الوادي الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة}..
فها هو ذا يقصد إلى النار التي آنسها، وها هو ذا في شاطئ الوادي إلى جوار جبل الطور، الوادي إلى يمينه، {في البقعة المباركة}.. المباركة، منذ هذه اللحظة.. ثم هذا هو الكون كله تتجاوب جنباته بالنداء العلوي الآتي لموسى {من الشجرة} ولعلها كانت الوحيدة في هذا المكان:
{أن يا موسى إني انا الله رب العالمين}:
وتلقى موسى النداء المباشر. تلقاه وحيداً في ذلك الوادي العميق، في ذلك الليل الساكن. تلقاه يتجاوب به الكون من حوله، وتمتلئ به السماوات والأرضون. تلقاه لا ندري كيف وبأية جارحة وعن أي طريق. تلقاه ملء الكون من حوله، وملء كيانه كله. تلقاه وأطاق تلقيه لأنه صنع على عين الله حتى تهيأ لهذه اللحظة الكبرى.
وسجل ضمير الوجود ذلك النداء العلوي؛ وبوركت البقعة التي تجلى عليها ذو الجلال؛ وتميز الوادي الذي كرّم بهذا التجلي، ووقف موسى في أكرم موقف يلقاه إنسان.
واستطرد النداء العلوي يلقي إلى عبده التكليف:
{وأن ألق عصاك}..
وألقى موسى عصاه إطاعة لأمر مولاه؛ ولكن ماذا؟ إنها لم تعد عصاه التي صاحبها طويلاً، والتي يعرفها معرفة اليقين. إنها حية تدب في سرعة، وتتحرك في خفة، وتتلوى كصغار الحيات وهي حية كبرى:
{فلما رآها تهتز كأنها جان ولى مدبراً ولم يعقب}.
إنها المفاجأة التي لم يستعد لها؛ مع الطبيعة الانفعالية، التي تأخذها الوهلة الأولى.. {ولى مدبراً ولم يعقب} ولم يفكر في العودة إليها ليتبين ماذا بها؛ وليتأمل هذه العجيبة الضخمة. وهذه هي سمة الانفعاليين البارزة تتجلى في موعدها!
ثم يستمع إلى ربه الأعلى:
{يا موسى أقبل ولا تخف إنك من الآمنين}..
إن الخوف والأمن يتعاقبان سريعاً على هذه النفس، ويتعاورانها في مراحل حياتها جميعاً. إنه جو هذه الحياة من بدئها إلى نهايتها؛ وإن هذا الانفعال الدائم المقصود في تلك النفس، مقدر في هذه الحياة، لأنه الصفحة المقابلة لتبلد بني إسرائيل، ومرودهم على الاستكانة ذلك الأمد الطويل. وهو تدبير القدرة وتقديرها العميق الدقيق.
{أقبل ولا تخف إنك من الآمنين}..
وكيف لا يأمن من تنقل يد القدرة خطاه، ومن ترعاه عين الله؟
{اسلك يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء}..
وأطاع موسى الأمر، وأدخل يده في فتحة ثوبه عند صدره ثم أخرجها. فإذا هي المفاجأة الثانية في اللحظة الواحدة. إنها بيضاء لامعة مشعة من غير مرض، وقد عهدها أدماء تضرب إلى السمرة. إنها إشارة إلى إشراق الحق ووضوح الآية ونصاعة الدليل.
وأدركت موسى طبيعته. فإذا هو يرتجف من رهبة الموقف وخوارقه المتتابعة. ومرة أخرى تدركه الرعاية الحانية بتوجيه يرده إلى السكينة. ذلك أن يضم يده على قلبه، فتخفض من دقاته، وتطامن من خفقاته:
{واضمم إليك جناحك من الرهب}..
وكأنما يده جناح يقبضه على صدره، كما يطمئن الطائر فيطبق جناحه. والرفرفة أشبه بالخفقان، والقبض أشبه بالاطمئنان. والتعبير يرسم هذه الصورة على طريقة القرآن.
والآن وقد تلقى موسى ما تلقى، وقد شاهد كذلك ما شاهد، وقد رأى الآيتين الخارقتين، وقد ارتجف لهما ثم اطمأن.. الآن يعرف ما وراء الآيات، والآن يتلقى التكليف الذي كان يعد من طفولته الباكرة ليتلقاه..
{فذانك برهانان من ربك إلى فرعون وملئه إنهم كانوا قوماً فاسقين}..
وإذن فهي الرسالة إلى فرعون وملئه. وإذن فهو الوعد الذي تلقته أم موسى وهو طفل رضيع: {إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين}.. الوعد اليقين الذي انقضت عليه السنون. وعد الله لا يخلف الله وعده وهو أصدق القائلين.
هنا يتذكر موسى أنه قتل منهم نفساً، وأنه أخرج من بينهم طريداً، وأنهم تآمروا على قتله فهرب منهم بعيداً. وهو في حضرة ربه. وربه يكرمه بلقائه، ويكرمه بنجائه، ويكرمه بآياته، ويكرمه برعايته، فما له لا يحتاط لدعوته خيفة أن يقتل فتنقطع رسالته:
{قال رب إن قتلت منهم نفساً فأخاف أن يقتلون}..
يقولها لا ليعتذر، ولا ليتقاعس، ولا لينكص؛ ولكن ليحتاط للدعوة، ويطمئن إلى مضيها في طريقها، لو لقي ما يخاف.
وهو الحرص اللائق بموسى القوي الأمين:
{وأخي هارون هو أفصح مني لساناً فأرسله معي ردءاً يصدقني إني أخاف أن يكذبون}.
إن هارون أفصح لساناً فهو أقدر على المنافحة عن الدعوة. وهو ردء له معين، يقوي دعواه، ويخلفه إن قتلوه.
وهنا يتلقى موسى الاستجابة والتطمين:
{قال سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطاناً فلا يصلون إليكما بآياتنا أنتما ومن اتبعكما الغالبون}..
لقد استجاب ربه رجاءه؛ وشد عضده بأخيه. وزاده على ما رجاه البشارة والتطمين: {ونجعل لكما سلطاناً}.. فهما لن يذهبا مجردين إلى فرعون الجبار. إنما يذهبان إليه مزودين بسلطان لا يقف له في الأرض سلطان؛ ولا تنالهما معه كف طاغية ولا جبار: {فلا يصلون إليكما}.. وحولكما من سلطان الله سياج، ولكما منه حصن وملاذ.
ولا تقف البشارة عند هذا الحد. ولكنها الغلبة للحق. الغلبة لآيات الله التي يجبهان بها الطغاة. فإذا هي وحدها السلاح والقوة، وأداة النصر والغلبة: {بآياتنا أنتما ومن اتبعكما الغالبون}.
فالقدرة تتجلى سافرة على مسرح الحوادث؛ وتؤدي دورها مكشوفاً بلا ستار من قوى الأرض، لتكون الغلبة بغير الأسباب التي تعارف عليها الناس، في دنيا الناس، وليقوم في النفوس ميزان جديد للقوى والقيم. إيمان وثقة بالله، وما بعد ذلك فعلى الله.
وينتهي هذا المشهد الرائع الجليل؛ ويطوي الزمان ويطوي المكان، فإذا موسى وهارون في مواجهة فرعون، بآيات الله البينات؛ وإذا الحوار بين الهدى والضلال؛ وإذا النهاية الحاسمة في هذه الدنيا بالغرق، وفي الحياة الأخرى باللعنة. في سرعة واختصار:
{فلما جاءهم موسى بآياتنا بينات قالوا ما هذا إلا سحر مفترى وما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين وقال موسى ربي أعلم بمن جاء بالهدى من عنده ومن تكون له عاقبة الدار إنه لا يفلح الظالمون وقال فرعون يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري فأوقد لي يا هامان على الطين فاجعل لي صرحاً لعلي أطلع إلى إله موسى وإني لأظنه من الكاذبين واستكبر هو وجنوده في الأرض بغير الحق وظنوا أنهم إلينا لا يرجعون فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة هم من المقبوحين}..
إن السياق هنا يعجل بالضربة القاضية؛ ويختصر حلقة السحرة التي تذكر في سور أخرى بتفصيل أو إجمال. يختصرها ليصل من التكذيب مباشرة إلى الإهلاك. ثم لا يقف عند الأخذ في الدنيا، بل يتابع الرحلة إلى الآخرة.. وهذا الإسراع في هذه الحلقة مقصود، متناسق مع اتجاه القصة في السورة: وهو تدخل يد القدرة بلا ستار من البشر، فما إن يواجه موسى فرعون حتى يعجل الله بالعاقبة، وتضرب يد القدرة ضربتها الحاسمة، بلا تفصيل في المواجهة أو تطويل.
{فلما جاءهم موسى بآياتنا بينات قالوا ما هذا إلا سحر مفترى وما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين}.
..
وكأنما هي ذات القولة التي يقولها المشركون لمحمد صلى الله عليه وسلم في مكة يومذاك.. {ما هذا إلا سحر مفترى وما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين}.. فهي المماراة في الحق الواضح الذي لا يمكن دفعه. المماراة المكرورة حيثما واجه الحق الباطل فأعيا الباطل الجواب. إنهم يدعون أنه سحر، ولا يجدون لهم حجة إلا أنه جديد عليهم، لم يسمعوا به في آبائهم الأولين!
وهم لا يناقشون بحجة، ولا يدلون ببرهان، إنما يلقون بهذا القول الغامض الذي لا يحق حقاً ولا يبطل باطلاً ولا يدفع دعوى. فأما موسى عليه السلام فيحيل الأمر بينه وبينهم إلى الله. فما أدلوا بحجة ليناقشها، ولا طلبوا دليلاً فيعطيهم، إنما هم يمارون كما يماري أصحاب الباطل في كل مكان وفي كل زمان، فالاختصار أولى والإعراض أكرم، وترك الأمر بينه وبينهم إلى الله:
{وقال موسى ربي أعلم بمن جاء بالهدى من عنده ومن تكون له عاقبة الدار إنه لا يفلح الظالمون}.
وهو رد مؤدب مهذب، يلمح فيه ولا يصرح. وفي الوقت ذاته ناصع واضح، مليء بالثقة والطمأنينة إلى عاقبة المواجهة بين الحق والباطل. فربه أعلم بصدقه وهداه، وعاقبة الدار مكفولة لمن جاء بالهدى، والظالمون في النهاية لا يفلحون. سنة الله التي لا تتبدل. وإن بدت ظواهر الأمور أحياناً في غير هذا الاتجاه. سنة الله يواجه بها موسى قومه ويواجه بها كل نبي قومه.
وكان رد فرعون على هذا الأدب وهذه الثقة ادعاء وتطاولا، ولعبا ومداورة، وتهكماً وسخرية:
{وقال فرعون يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري فأوقد لي يا هامان على الطين فاجعل لي صرحاً لعلي أطلع إلى إله موسى وإني لأظنه من الكاذبين}..
يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري.. كلمة فاجرة كافرة، يتلقاها الملأ بالإقرار والتسليم. ويعتمد فيها فرعون على الأساطير التي كانت سائدة في مصر من نسب الملوك للآلهة. ثم على القهر، الذي لا يدع لرأس أن يفكر، ولا للسان أن يعبر. وهم يرونه بشراً مثلهم يحيا ويموت، ولكنه يقول لهم هذه الكلمة فيسمعونها دون اعتراض ولا تعقيب!
ثم يتظاهر بالجد في معرفة الحقيقة، والبحث عن إله موسى، وهو يلهو ويسخر: {فأوقد لي يا هامان على الطين فاجعل لي صرحاً لعلي أطلع إلى إله موسى}.. في السماء كما يقول! وبلهجة التهكم ذاتها يتظاهر بأنه شاك في صدق موسى، ولكنه مع هذا الشك يبحث وينقب ليصل إلى الحقيقة: {وإني لأظنه من الكاذبين}!
وفي هذا الموضع كانت حلقة المباراة مع السحرة. وهي محذوفة هنا للتعجيل بالنهاية:
{واستكبر هو وجنوده في الأرض بغير الحق وظنوا أنهم إلينا لا يرجعون}.